فصل: فصل في الإعذار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل في الإعذار:

مصدر أعذر إذا بالغ في طلب العذر. وقال المبرد في معاني القرآن: يقال أعذر الرجل إذا أتى بعذر صحيح، ومنه المثل: من أنذر فقد أعذر أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك، ومنه أعذر القاضي إلى من ثبت عليه حق في المشهود به. وفي العرف قال ابن عرفة: سؤال الحاكم من توجه عليه موجب حكم هل له ما يسقطه. اهـ.
والأصل فيه قوله تعالى في قصة الهدهد: لأعذبنه عذاباً شديداً} (النمل: 21) الآية. فجعل له عذراً إذا أتاه بسلطان مبين وقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى} (الإسراء: 51) إلى غير ذلك. ويعذر في المزكي والمزكى وكذا في شهود الخط ويسمى ذلك للمشهود عليه. واختلف هل يقول له دونك فجرح وإلا حكمت أو لا يقول له ذلك؟ ثالثاً: إن كان قبولهم بالتزكية، ورابعها لابن القاسم يقول ذلك لمن لا يدريه كالمرأة والضعيف.
وَقَبْلَ حُكْمٍ يَثْبُتُ الإعْذَارُ ** بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَذَا المُخْتَارُ

(وقبل حكم) يتعلق بقوله (يثبت) بفتح أوله وضم ثالثه بمعنى يجب أي يثاب على فعله ويعاقب على تركه (الإعذار) فاعله أي يجب الإعذار للخصم عند إرادة الحكم عليه فهو قريب من كلام ابن عرفة (بشاهدي عدل) يتعلق بمحذوف لا بيثبت المذكور كما يأتي إلا أن يريد به الحقيقة والمجاز أي أطلقه على الوجوب قبل الحكم وعلى الثبوت الحقيقي بعده أي يجب على الحاكم قبل حكمه الإعذار بقوله لمن توجه عليه الحكم أبقيت لك حجة أو هل لك ما يحقق دعواك ويثبت الإعذار بذلك عند التنازع فيه بشاهدي عدل فمعمول الإعذار محذوف والعامل في الجار على الوجه الأول كذلك كما ترى، ويدل لحذف العامل في الجار قوله بعده وشاهد الإعذار الخ، تأمل، فيستفاد منه حينئذ أن الحكم من غير تقدم إعذار بما ذكر باطل وهو كذلك لأنه شرط صحة فيه على المذهب لحق الله وما للبناني من أنه إنما يبطل إذا خلا من الإعذار رأساً لا قبل الحكم ولا بعده فيه نظر يعلم بالوقوف على مسألة الترجالي في أنكحة المعيار، وعلى ما في نوازل الضرر منه وأن الإعذار لا يثبت بمجرد قول القاضي أعذرت فحكمت بل حتى تشهد بذلك بينة كما مرّ عند قوله وقول سحنون به اليوم العمل إلخ.
وتعلق الجار بيثبت المذكور مع إطلاقه على حقيقته لا يفيد ما ذكرناه كما يعلم بالتأمل إذ لا داعي لإثباته قبل الحكم إذ لا نزاع فيه حتى يطلب إثباته. نعم إذا قلنا التأجيل إعذار واختلف فيه قبل الحكم فيمكن ذلك وسيأتي أنه يعذر له ابتداء وانتهاء. والحاصل أنه تارة يتفقان على أن الحكم وقع قبل الإعذار وتارة يختلفان فيقول القاضي: ما حكمت حتى أعذرت لك، فلم تأت بحجة، وأنكر المحكوم عليه الإعذار له وفي كل منهما خلاف والمعتمد بطلان الحكم فيهما حتى يثبت الإعذار ولذا قال: (وذا) أي ما ذكر من كون الإعذار واجباً قبل الحكم وكونه يثبت بشاهدين هو (المختار) المعمول به خلافاً لمن قال أنه يحكم أولاً وبعد ذلك يعذر للمحكوم عليه فإن أبدى مطعناً وإلا استمر الحكم عليه، ولمن قال يثبت الإعذار بمجرد قول القاضي وإن لم يعلم إلا من قوله كما في التبصرة وغيرها فإن ذلك كله ضعيف لم يصحبه عمل، ولذا احتاج الناظم إلى نفي الإعذار في شاهده فقال: وشاهد الإعذار إلخ.
وعلله بالتسلسل إذ لو كان قول القاضي فيه مقبولاً لم يعلله بذلك فقوله المختار راجع لثبوت الإعذار ولوجوبه قبل الحكم كما قررنا لا لتثنية شاهدي عدل لأنه كما يثبت بالشاهدين يثبت بالشاهد الواحد على المعتمد، ثُمَّ إذا أعذر له بما مرّ فإن ذكر حجة أجله للإتيان بها على حسب ما مرّ، وإن ذكر أن له بينة بعيدة كالعراق والمغرب من المدينة أو مصر حكم عليه وكتب في كتابه ومتى أحضرها فهو على حجته. قال في الشامل: ولو أحلف خصمه بدون حاكم وله بينة بعيدة فله القيام أي بها إذا قدمت ولا مفهوم لقوله بدون حاكم بل بالأحرى إذا أحلفه بحاكم كما في النكت، وإنما كان له القيام إذا أحلفه بدون حاكم لأنه لو رفع الأمر للحاكم لم يفعل غير ذلك.
تنبيهات:
الأول: فهم من كلام ابن عرفة والناظم أن الإعذار بقوله: ألك حجة ونحوه قد يتعدد لأنه معلق على توجه الحكم وهو قد يتوجه مراراً فيتوجه من أول الأمر كما لو ادعى عليه بدين مثلاً، فأنكره، فالحكم قد توجه على الطالب فيعذر له بما ذكر، فإذا ادعى حجة وأجل للإتيان بها وانقضى أجله الأول وأوقفه أعذر له بذلك أيضاً، وهكذا إلى انقضاء الآجال والتلومات فيعذر له بذلك أيضاً، وكذا يقال في المطلوب إن ادعى مطعناً فيما أثبته الطالب ففائدته أولاً ليعلم ما عنده من أدعائها أو نفيها، وفائدته أخيراً ليظهرها إن أتى بها أو يبدي عذراً يوجب تأخيره كما مرّ، وليظهر عجزه إن لم يأت بشيء فيشهد عليه بعدم الإتيان أو ادعاء نفيها فيقع الحكم مع تبين اللدد أو مع عدمه ونحو ذلك كما مرّ في الآجال، ويدل لما ذكرناه قول ابن سهل وغيره لابد للقاضي أن يقول للمتخاصمين أخيراً أبقيت لكما حجة. اهـ.
وحينئذ فلابد أن يقول في رسم التسجيل لما تحاكم الخصمان أعلاه وانصرمت الآجال والتلومات الثابتة أعلاه أو حوله ولم يأت المتأجل بشيء اقتضى نظر قاضي كذا وهو الخ إن حكم على فلان المتأجل المذكور بكذا بعد أن أعذر له بأبقيت لك حجة فادعاها أو نفاها حكماً لازماً قطع به شغبه وأوجب العمل بمقتضاه أشهد على إشهاده بما ذكر وهو بحيث يجب له ذلك وعلى المحكوم عليه بما فيه عنه إلخ.
فالحكم باطل إن خلا من الإعذار بما ذكر ولم يشهد به الغير كما مرّ. وقولنا فادعاها أو نفاها إلخ.
ينبني عليه قول (خ) ثُمَّ لا تسمع بينة أن عجزه قاض مدعي حجة وظاهرها القبول إن أقر على نفسه بالعجز. اهـ.
وسيأتي تمام هذا في الفصل بعده إن شاء الله ولا يعارض ما مرّ عن ابن سهل وغيره قول الناظم: ومن ألد في الخصام إلخ.
لأن هذا لما علم لدده وأنه يدعيها وإلا لما فر، وأيضاً الفار متسبب بفراره في إسقاط حقه.
الثاني: فهم من قوله الإعذار الذي هو طلب العذر كما مرّ أنه لا يكون في شهادة ورسم ناقصين كما لا يكلف بجواب الدعوى الناقصة كما مرّ لأن العذر موجود حينئذ فطلبه من طلب تحصيل ما هو حاصل، ولذا قال ابن سهل وغيره: والإعذار لا يكون إلا بعد استيفاء الشروط وتمام النظر والإعذار في شيء ناقص لا يفيده، وكذا الخطاب بالقبول والأداء لا يكون في شيء ناقص كما يأتي في أول الفصل بعده.
الثالث: إذا قام المستحق وأثبت أن فلاناً غصبه أملاكاً وباعها ثُمَّ باعها المشتري منه لآخر فالإعذار يكون للمشتري الذي بيده الأملاك وتكون الخصومة معه خاصة فإن أتى بمدفع فذاك وإلاَّ رجع على بيعه وينتقل الإعذار له فيطالب بالمدفع الذي كان يطالب به المشتري منه وهكذا حتى يصل إلى الأول قاله في أقضية البرزلي، ويأتي مثله في الاستحقاق إن شاء الله، ثُمَّ إذا أنكر المحكوم عليه والمتأجل الإعذار والتأجيل فاستظهر المحكوم له بعدلين عليهما فسأل المحكوم عليه الإعذار له في شاهديهما، فإن المنكر لذلك لا يجاب كما قال:
وشاهِدُ الإعْذَارِ غَيْرُ مَعْمَلِ ** في شَأْنِهِ الإعْذَارُ لِلتَّسَلْسُلِ

(وشاهد الإعذار) مبتدأ (غير معمل) خبره (في شأنه) يتعلق به (الإعذار) نائب فاعل معمل لأنه اسم مفعول بضم الميم الأولى وفتح الثانية (للتسلسل) يتعلق باسم المفعول المذكور. وبيانه: أنه لو مكن من ذلك لم يكن بد من إشهاد شاهدين على ذلك ثُمَّ يجحد الإعذار ثانياً ويسأل الإعذار في شاهديه، وهكذا كلما أعذر له بشاهدين جحد. وقال: اعذر لي فيمن شهد به، ونظيره ما تقدم في كون القاضي إن لم يستند لعلمه في الشهود لزم التسلسل، وإن كان القاضي يمكنه قطع التسلسل اللازم في عدم استناده إلى علمه بتزكية شاهدين مشهورين عند الناس بالعدالة كما مرّ، فهنا لا يمكن ذلك وتقرير (م) له بأنه لو مكن من ذلك لجرحهما فيبطل الإعذار ويبطل الحكم ببطلانه لأنه متوقف على الإعذار والفرض أن له تجريح شاهده فيتعذر الحكم أبداً إلخ.
فيه نظر فإن تقرير التسلسل بهذا المعنى يؤدي إلى نفي الإعذار من أصله في كل شيء لا في خصوص شاهدي الإعذار لأن كل معذور فيه يمكن تجريحه. وقول (ت) إن التسلسل المذكور ينقطع بالإعذار بالمبرزين وإنه إنما يمنع في العقليات إلخ.
يريد بأن المبرز يغلب تعذره كما يأتي وبأنه يقدح فيه بالعداوة والقرابة كما يقدح فيه بغيرهما على المختار عند اللخمي وهو المعتمد كما في (خ) وشراحه، وبأن التسلسل المذكور بالمعنى الذي قدمناه عقلي كما لابن عرفة راداً به على ابن عبد السلام في التسلسل اللازم على عدم استناد القاضي لعلمه، ثُمَّ إن كلام الناظم هنا شامل لكل ما أشهد به القاضي على نفسه من إعذار أو تأجيل أو ثبوت أو إبرام حكم ونحو ذلك، فإن الإعذار في ذلك كله يؤدي للتسلسل المذكور. ألا ترى أنه إذا أعذر له في شاهدي الحكم مثلاً وعجز عن الطعن فيهما فحكم بعجزه أنكر العجز وقال له: اعذر لي في شاهديه وهكذا ولا يدخل ما هنا في قوله: ولا الذي بين يديه قد شهد. إلخ.. لأنه فيما أقر به أحد الخصمين بين يديه ولا يلزم من عدم الإعذار فيما أقر به بين يديه عدمه فيما أشهد به على نفسه، لأن التهمة في الشهادة وعلى النفس أقوى، ألا ترى أنه في الإقرار يكون شاهداً به عند الغير بخلاف الآخر، فإنه شهادة على فعل النفس لا تقبل فالمسألتان متباينتان، وقد تقدم أن قول (خ) ولا تقبل شهادته بعده أي بعد العزل أنه قضى بكذا أنه لا مفهوم للظرف، بل كذلك قبل العزل على المعتمد، ولا فرق بين أن يكون قوله ذلك على وجه الخطاب أو الشهادة، ولو كان قوله مقبولاً ما احتاج الناظم إلى تعليل نفي الإعذار بالتسلسل، فالتعليل به جار في القاضي المشهد بالإعذار ونحوه، وفي الذي أتى بعده كما هو ظاهر والله أعلم. وهذا لا ينافي ما يأتي من وجوب إعطاء النسخة من الحكم لأنه لم يأخذها من جهة الإعذار في شاهديه، بل ليراجع فصوله عند أهل العلم وليعلم هل صادف فيه الصواب أم لا وإلاَّ فهو مقر بوقوع الحكم عليه.
ولا الذِي وَجَّهَهُ الْقَاضِي إلى ** ما كان كالتحْلِيفِ مِنهُ بَدلا

(ولا) الواو عاطفة على معنى البيت المتقدم ولا لتأكيد النفي أي لا يعمل الإعذار في شأن شاهد الإعذار ولا (الذي وجهه القاضي إلى) يتعلق بوجهه (ما) موصولة (كان) صلتها واسمها عائد على ما (كالتحليف) خبرها، وأدخلت الكاف الموجه للحيازة والموجه لآخذ المرأة بشرطها وتطليق نفسها والموجه للنظر في العيوب وتقويم المسروق هل فيه نصاب فيقطع أو لا؟ وتقويم المتلفات لتغرم ونحو ذلك، ولكن عدم الإعذار في الموجه للعيب والتقويم إنما هو من جهة الطعن فيه لا من جهة معارضته بشهادة أخرى أقوى منه أو سؤال أهل العلم عن فصول شهادته فيعذر له من هذه الحيثية، وأدخلت أيضاً الموجه للأعذار لمريض أو مسجون أو امرأة لا تخرج، وإنما لم يعذر فيمن وجه إلى من ذكر لأن القاضي أقامه مقام نفسه وجعله (منه بدلاً) مفعول لأجله فيفيد أن عدم الإعذار إنما هو لأجل ما ذكر أو حال من الذي، ومنه يتعلق به ولا يلزمه تسميته إذ ما لا إعذار فيه ولا فائدة في تسميته قاله في المتيطية، قال: وقد قيل لا يسقط الإعذار في الموجهين للتحليف وبالأول الحكم والعمل قال: وكذا الإعذار في الموجهين للأعذار إلى مريض ونحوه ولا في الموجهين للحيازة. ابن سهل: وسألت ابن عتاب عن ذلك فقال: لا إعذار فيمن وجه للأعذار ويعذر في الموجهين للحيازة. قال ابن الهندي: وبه جرى العمل وقد اختلف أيضاً في ذلك. اهـ.
وفهم منه أنه إذا لم يوجه من قبل القاضي إلى ذلك فيه الإعذار وهو كذلك وفهم من قوله منه بدلاً أن عدم الإعذار إنما هو إذا كان الذي وجههما هو الحاكم في القضية، فإن عزل أو مات بعد التوجيه أو قبل الحكم وتولى غيره وقلنا يبنى على ما فعل الأول كما يأتي في الفصل بعده فالإعذار واجب لانتفاء العلة.
ولا الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ قَدْ شَهِدْ ** ولا اللَّفِيفُ في الْقَسَامَةِ اعتُمِدْ

(ولا) عاطفة كالتي قبلها أي ولا يعمل أيضاً في شأن الشاهد (الذي بين يديه) يتعلق بقوله (قد شهد) بفتح الشين وكسر الهاء صلة الذي والضمير في يديه يعود على القاضي أي شهد بإقرار الخصمين أو أحدهما بين يدي القاضي، والظرف يتعلق بإقرار المعمول لشهد لا لنفس شهد، فالظروف يتوسع فيها وإن تقدمت على المصدر المحذوف أي: فإن الخصم إذا أنكر وطلب الإعذار في شاهدي الإقرار لا يجاب بل يحكم عليه بمقتضى الإقرار من غير إعذار في شاهديه لمشاركته فهما في سماع الإقرار. ابن سهل: ويؤيده قول مالك في سماع أشهب في القوم يشهدون عند القاضي ويعدلون عنده هل يقول للمشهود عليه دونك فجرح؟ فقال: إن في ذلك لتوهيناً للشهادة ولا أراه إذا كان عدلاً أو عدل عنده أن يفعل قال: فقد أسقط مالك الإعذار هاهنا فيمن عدل عنده، فكيف فيمن هو عنده عدل وشهد عنده بما استوى فيه علم الشهود وعلمه مما سمعه في مجلسه، وإن كان لم يصحب هذه القولة يعني قولة مالك بعدم الإعذار في المعدل بالفتح عمل قال: بل العمل في المعدل بالفتح على الإعذار فيه بالتجريح وغيره هو مذهب المدونة وابن نافع وسحنون وشاهدت به القضاء بإجماع من أدركنا من العلماء اه بنقل المتيطي أوائل النكاح، وبه تعلم أن الذي أسقط فيه مالك الإعذار هو المعدل بفتح الدال، لكن لم يصحب قوله عمل لا المعدل بالكسر أي مزكي السر كما فهمه (ت) وبناني في حاشيته مؤولاً به كلام ابن سهل الذي اختصر زروق فهو غلط نشأ لهما من ظنهما أن الذي يصح به الاستشهاد هو المعدل بالكسر، لأنه الذي لا إعذار فيه مع أن ابن سهل لم يتكلم عليه أصلاً، وإنما استشهد بقول مالك بعدم الإعذار في المعدل بالفتح، وإن كان قوله بذلك ضعيفاً لكن فيه تقوية للقول بعدم الإعذار فيما وقع بين يديه كما ترى، وربما أشعر قوله قد شهد الخ أنه أداها بذلك المجلس بعينه لأنها لا تسمى شهادة إلا بالأداء، وهذا هو الذي لا إعذار فيه على المشهور كما في المتيطية. قال: وأما إن كتبوا مقالته ووضعوا أسماءهم عليها ثُمَّ شهدوا بها بعد أيام من تاريخ تلك المقالة أو حفظوا مقالته في المجلس دون أن يكتبوا شهادتهم عليها، ثُمَّ يؤدونها عنده بعد ذلك المجلس فإنه يعذر إلى المشهود عليه إذا أنكر مقالته تلك من غير خلاف أعلمه في هذين الوجهين، وإنما الخلاف في الوجه الأول. اهـ.
ونقله صاحب التبصرة عن المفيد.
تنبيهان:
الأول: يفهم من هذا أن عدم الإعذار إنما هو إذا نص الشهود على أن الإقرار أو الإنكار وقع بالمجلس، ونص القاضي أيضاً أن الأداء وقع بذلك المجلس فيقول مثلاً: أديا بمجلس الإقرار أعلاه إلخ.
وإلا فمن أين لنا أن كلاًّ من الإقرار والأداء وقع بالمجلس حتى يسقط الإعذار في ذلك عند هذا الحاكم أو عند من بعده والله أعلم.
الثاني: ما اقتصر عليه الناظم من عدم الإعذار في شاهدي المجلس صرح المتيطي بمشهوريته كما مرّ، وبه قال ابن العطار وغيره. وقال ابن الفخار: لابد من الإعذار فيهما لأن القاضي لا يقضي بعلمه ولا بما يقر به عنده دون بينة ولا بشهادة غير العدلين وهو يعلم أن ما شهدا به حق فإذا كان هكذا فكيف يقضي بشهادتهما من غير إعذار وكيف ينكشف عند الإعذار أنهما غير عدلين بإثبات عداوة أو فسق؟ ابن سهل: وهذا عندي هو القياس الصحيح المطرد لمن قال: إن القاضي لا يقضي بعلمه ولا بما سمع في مجلس نظره، لكن الذي قاله ابن العطار به جرى العمل وهو عندي الاستحسان ويعضده قول مطرف وابن الماجشون وبه أخذ سحنون أنه يقضي بما سمع في مجلس نظره. اهـ.
فقد علمت من هذا أن سقوط الإعذار في مسألة الناظم لا يتمشى إلا على قول سحنون ومن معه دون المشهور من قول مالك وابن القاسم وأشهب: من أن القاضي لا يحكم بما سمعه كما رأيته في كلام ابن سهل وابن الفخار. وبيانه: أنه إذا أسقط الإعذار فيهما قال الخصم: إنما أردت أن تحكم علي بعلمك، وزعمت أنه شهد علي شاهدان ومنعتني من تسميتهما والإعذار فيهما فما ذاك إلا لتتوصل إلى الحكم بعلمك بل بهواك، فالبينة حينئذ مستغنى عنها لوجودها في الصورة فقط ولو سماها وأبدى مطعناً لم يقبل منه فلم يبق سبب لحكمه إلا مجرد علمه، وقد تقدم قوله: وعلمه بصدق غير العدل لا إلخ.
فالجاري على مذهب مالك وابن القاسم أنه لابد من الإعذار كما قال ابن الفخار. قال ابن محرز: وهو الظاهر وإذا تأملت ما مرّ عند قوله وقول سحنون به اليوم العمل إلخ.
علمت أن الواجب في زماننا هذا هو الإعذار وأن ما قاله الناظم وغيره يجب كتمه بالنسبة لقضاة الزمان إذ ما شاء حاكم أن يحكم برأيه إلا زعم أنه أقر عنده في مجلسه، وشهد على إقراره شاهدان وأنه لا يلزمه الإعذار فيهما ولا تسميتهما لأنه لو سماها وأتى بمطعن لا يقبل، ولو صح ما ذكر هنا لبطل قوله فيما مر وعلمه بصدق إلخ.
ولصح قوله وقول سحنون الخ لأن الأمر آل هنا إلى حكمه بعلمه كما ترى وكما يأتي عند قوله:
والفحص من تلقاء قاض قنعا ** فيه بواحد في الأمرين معا

ولذا كان القضاة اليوم يعطون النسخ من أحكامهم وتأجيلاتهم وإعذاراتهم والله أعلم.
(ولا) عاطفة كالتي قبلها أي ولا يعمل في (اللفيف في القسامة) يتعلق بقوله (اعتمد) والجملة حال من اللفيف أي حال كونه اعتمد عليه في القسامة وجعل لوثاً فيها وهو أحد قولين. مشهورهما أنه ليس بلوث وعلى مقابله درج الناظم في الدماء حيث قال في أمثلة اللوث: أو بكثير من لفيف الشهدا. إلخ.
وفهم من قوله في القسامة أنه لا يعتمد عليه في غيرها والعمل بفاس على جواز شهادته في الدماء والأموال وغيرهما فيثبت بها الدم وغيره ويقتص من القاتل بها مع القسامة حيث بلغ اللفيف اثني عشر فأكثر على ما هو مبين في شرح اللامية وغيرها ومعنى عدم الإعذار فيه أنه لا يقبل التجريح فيه بكل ما يجرح به العدل من مطل وحلف بعتق وطلاق ونحو ذلك لأنه مدخول فيه على عدم العدالة. نعم لابد فيه من ستر الحال فلا يقبل تارك الصلاة ولا المجاهر بالكبائر من كثرة كذب وإظهار سكر وقمار وسفه ومجون ولا متهم كصديق وقريب للمشهود له أو عدو للمشهود عليه اتفاقاً ولا ممن فيه عصبية ففي البرزلي قبيل النفقات أثناء كلامه على شهادة اللفيف ما نصه: شاع وذاع في العامة أن يشهد بعضهم لبعض على وجه الإعانة واستخلاص الحقوق ويستند بعضهم إلى خبر بعض من غير تحقيق علم. اهـ.
وانظر ما يأتي في الدماء عند قوله: أو بكثير من لفيف الشهدا. إلخ... ثُمَّ لابد من استفساره لأنه قائم مقام تزكيته، وسواء كان في الرسم إجمال أو احتمال أم لا لأن كل من لا يكتب شهادته لابد من استفساره لفيفاً أو غيره إذ لعل الكاتب كتب ما لم يشهد به وهو من حق الخصم على عمل الفاسيين. وصفته: أن يقرأ الرسم المقيد عنهم أولاً على كل واحد منهم إن لم يحضروا جميعاً أو على جميعهم إن حضروا كلهم قراءة تفهم، فإذا كملت قراءته سأله عن أداء شهادته كيف يؤديها وعن مستند علمه فيها فإذا أجاب بشيء كتبه بلفظه حرفاً حرفاً ولو ملحوناً ويسأله عن كل فصل يتوقف تمام الشهادة عليه على حدته فيقول له: ما علمك في هذا الفصل وفي هذا ولا يكتب عليه أنه أسقط فصلاً من فصولها بمجرد سكوته عنه كما يفعله كثير من جهلة العدول، بل حتى يسأله عنه بخصوصه ولا يحقق فيه شيئاً وإن غلط فلا يؤاخذه به كما مرّ عند قوله: وخصم إن يعجز إلخ.
وهكذا يفعل في الثاني والثالث حتى يأتي على الأخير وإن رجع بعضهم كتب ذلك. وإن امتنع من الأداء كتب يشهد من يضع اسمه أثره أنه حضر بموضع كذا وسأل الشاهد أعلاه أو حوله عن شهادته فامتنع من أدائها امتناعاً كلياً فمن عاين امتناعه المذكور قيده في كذا، فإذا ثبت امتناعه سقطت شهادته كامتناع العدل من أدائها. وقيل: يهدد الممتنع فإذا لج في الامتناع جازت شهادته، ثُمَّ إذا كمل الاستفسار ووافق أداؤه ما قيد عنهم أولاً ثبتت شهادتهم ويبقى المدفع فيهم بالعداوة وترك الصلاة ونحوها مما مرّ لا بكل قادح لأنه مدخول فيهم على عدم تمام العدالة كما مرّ، وإن خالف أداؤه شهادته أولاً سقطت الأولى والثانية والمعتبر في المخالفة اختلاف المعنى لا اللفظ، وإن بقي إجمال بعد الاستفصال بغفلة ممن بحثهم عنه سئلوا عنه كما يسأل الشاهد عنه بعد أداء شهادته كما في المعيار قال فيه وما يتحيل به الشهود من سؤال الشاهد المستفسر عن أشياء تغلطه من الفساد، بل الذي دلت عليه الرواية أن القاضي يسأله عما يتوقف عليه الحكم ولا يشترط حضور المشهود عليه للاستفسار كما لا يجب على المشهود له جلبهم له وإن كانوا من البادية مثلاً، وإنما يجب عليه أن يعينهم للمطلوب وشأنه باستفسارهم قاله العبدوسي وغيره، ثُمَّ إذا مات الشهود أو غابوا قبل الاستفسار فإنه يحكم بشهادتهم حيث كانت خالية من الإجمال والاحتمال لأن الأصل استمرارها وعدم وجود ما يبطلها فإذا كان فيها إجمال ففي البرزلي عن أبي عمران يستفسر الشهود إذا قالوا: هذه الدابة لفلان هل يعلمون أنه باعها أم لا؟ فإن غابوا حكم بشهادتهم، وقيل: إذا كانوا من أهل العلم وإلاَّ فلا. اهـ.
واختلف إذا كانوا حضوراً ولم يقم المشهود له بها حتى مضت ستة أشهر فأكثر، والذي به العمل أن الرسم إذا جاوز المدة المذكورة وادعى الخصم فيه مطعناً من غير الاستفسار مكن منه، وأما إن طلب نسخة للاستفسار فإنه لا يمكن ويحكم به كذلك من غير استفسار قاله أبو زيد التالي. ونقله سيدي العربي الفاسي، وفي المعيار جرى عمل بعض قضاة المغرب باستحسان ترك الاستفسار بعد مضي ستة أشهر من أداء الشهادة معتلاً بأن هذه مظنة النسيان. زاد في الفائق ما نصه: وبعضهم يقول باعتبار ستة أشهر إن أداها إثر تحملها، وأما إن طال زمن تحملها ثُمَّ زعم نسيانها بعد ستة أشهر من أدائها فإنه لا يقبل قال: وهذه كلها استحسانات خارجة عن الأصول. اهـ.
ومفهوم قوله من أدائها أنهم إذا ماتوا أو غابوا قبل الأداء لا يعمل بها وهو الذي نقله بعض الثقات عن المجاصي وأنه رفعت إليه بينة اللفيف على عين بلد لأولاد ابن بكار وهي غير مؤداة ولها نحو الثمانين سنة فلم يحكم بها. اهـ.
وهذا ظاهر إن كان الأداء غير الاستفسار كما في (ت) في شرح اللامية: وإلاَّ فالمعمول به اليوم أن القاضي يكتفي بما قيده المتلقي عنهم ويكتب عقب أدوا أو شهدوا لدى من قدم لذلك فثبت إلخ.
ولا يطالبهم بالأداء عليه لأنه قدم المتلقي للتلقية والأداء، وحينئذ فيعمل به حيث كتب القاضي شهدوا وأدوا ولو طال الزمان وما قاله المجاصي لعله مبني على أن الأداء لا يكون إلا عند القاضي أي فيؤدون عليه بعد التلقية، ثُمَّ إن طلب الاستفسار استفسروا وهو الذي لأبي الحسن، ومن المعلوم أن الاستحسان مقدم على القياس، ولذا عول عليه ناظم العمل المطلق فقال:
واستحسنوا إن مر نصف عام ** من الأداء ترك الاستفهام

وفي جواب لسيدي علي بن هارون ما نصه: جرى العمل بالتحديد في نسخة الاستفسار بستة أشهر مع العلم فإن زادت المدة فلا تعطى فيها نسخة وتعطى مطلقاً مع عدم العلم، والقول قول من له الحق في ذلك أنه لا علم عنده ولولا ذلك لضاعت الحقوق. اهـ.
قلت: ولعل هذا القول المفصل هو الذي أصاب المفصل.
تنبيهات:
الأول: الشاهد غير المبرز الذي لا يعرف ما تصح به الشهادة حكمه حكم اللفيف في وجوب الاستفسار عن كيفية علمه بما شهد به كما في التبصرة، وظاهره كان في الوثيقة إجمال أم لا. وأما العدل المبرز العارف بما تصح به الشهادة فلا يستفسر حيث لا إجمال مطلقاً، وأما المبرز غير العالم بما تصح به الشهادة فيستفسر إذا أبهم أو أجمل كالذي قبله كشهادته بأن المرأة اختلعت من زوجها وسلمت له في جميع صداقها ومطالبها ثُمَّ قامت بعد ذلك تطالبه بحق خارج عن مطالب الزوجية زاعمة أن تسليمها إنما وقع فيما يرجع للزوجية فهنا يسأل الشاهد عما شهد به وعما فهمه من حال المرأة عند الشهادة هل ما ادعته الآن أو ما ادعاه الزوج عليها من التعميم قاله سيدي العربي الفاسي. قلت: ويفهم منه أن الخلاف بين ابن رشد وابن الحاج المشار له بقول اللامية: وإن عمم الإبراء والخلع سابق إلخ.
إنما هو إذا لم يحقق الشاهد عند الاستفسار شيئاً أو تعذر استفساره لموته أو غيبته وإلاَّ فالعبرة بما حققه الشاهد اتفاقاً منهما فتحققه منصفاً.
الثاني: لابد في الاستفسار من شاهدين يسألان اللفيف عما شهدوا به ولا يكفي الواحد لأنهم إن ثبتوا على شهادتهم على نحو ما قيدها عنهم الأولان فسماع هذا منهم زائد لا عبرة به، وإن رجعوا عنها فلا يثبت رجوعهم بالشاهد الواحد قاله الزياتي في نوازله عن سيدي العربي الفاسي قال: وأما السماع من اللفيف فعمل المراكشيين على أنه لابد من اثنين لأنه كالنقل، وعمل الفاسيين على الاكتفاء بالواحد لأنه من باب الأداء والسامع منه نائب عن القاضي في ذلك، فيشهد اللفيف عند عدل عينه القاضي نصاً أو بعموم الإذن له في تحمل الشهادات، فإذا أدى اللفيف لديه كتب مضمن شهادتهم في رسم وأرخه ثُمَّ كتب أسماءهم عقب التاريخ ثُمَّ يطالع القاضي بذلك فيكتب بخطه عقب أسمائهم شهدوا لدى من قدم لذلك لموجبه فثبت فقوله: شهدوا أي اللفيف لدى أي عند من قدم أي قدمه القاضي لسماع البينات بإذن خاص أو عام، فالفاعل الذي حول عنه الإسناد هو القاضي لذلك أي لسماع البينات اللفيفية لموجبه أي لموجب تقديمه لذلك لكونه عدلاً صالحاً لذلك، ولضرورة استنابة القاضي إياه في ذلك لعسر مباشرة القاضي فثبت أي أداؤهم أي أداء اللفيف عند من ذكر، ثُمَّ يكتب بعد ذلك رسم التسجيل عقبه فيه إشهاد القاضي بثبوت ذلك الرسم عنده.
الثالث: ما مر من أن الرسم يقرأ على اللفيف عند إرادة الاستفسار هو ما وقفت عليه لغير واحد من المتأخرين، وأما غير اللفيف فقال في التبصرة شهادة الاسترعاء لابد أن يستحضرها الشهود من غير أن يروا الوثيقة إذا كانت الوثيقة مبنية على معرفة الشهود كشهادتهم بمعاينة الغصب والحيازة ونحوهما، فإذا رأى الحاكم ريبة من إجمال أو احتمال توجب التثبت، فينبغي أن يقول لهم ما تشهدون به فإن ذكروا بألسنتهم ما في الوثيقة وإلا ردها. قال: وأما إن كانت الوثيقة منعقدة على إشهاد الشاهدين، فلا ينبغي أن يؤاخذ الشهود بحفظ ما في الوثيقة وحسبهم أن يقولوا: إن شهادتهم فيها حق ولا يمسك القاضي الكتاب ويسألهم عنها اه ببعض اختصار وزيادة إيضاح. وظاهره أن المنعقدة على إشهاد الشاهدين لا استفسار فيها ولو مع إجمال أو احتمال لأن الشاهد حينئذ إنما حكى قول المتعاقدين وهو مخالف لما مرّ في مسألة الخلع من أنهم يسألون عما فهموه من حال المتعاقدين ومخالف لما نص عليه ابن لب في جواب له نقله الشارح وغيره عند قوله: والزوج حيث لم يجدها بكراً. إلخ.
قائلاً ما نصه الواجب في شأن اتصال تلك العصمة أن يستفسر شهود التفاصل والانفصال فإن كانوا قد فهموا من الزوج الطلاق وأدوا على ذلك فهو كذلك وإن فهموا بقاء العصمة وأدوا على ذلك قلدوا وحلف الزوج أنه ما أراد طلاقاً. اهـ.
وهذا من أدل دليل على دخول الاستفسار في شهادة الأصل خلافاً لمن وهم من بعض شيوخنا وهو في الحقيقة راجع إلى الشهادة بالفهم وفي إعمالها نزاع تقدم عند قوله: وليس بالجائز للقاضي إذا. وسيأتي إن شاء الله عند قوله: وغالب الظن إلخ... إن الشهادة بما يفهم من القرائن والأحوال لا تقبل إلا من المبرز في علم الحقائق وأين هو، ولذا لم يذكر في الفائق وجوب الاستفسار إلا في شهود الاسترعاء فقال: إن عمل القضاة جرى باستفسار شهود الاسترعاء عن شهادتهم وبعد أدائها عن فصول الوثيقة ومضمونها إلخ.
ويفهم منه ومما مر أنهم لا يستفسرون عما ليس من فصول الوثيقة كسؤالهم عن وقت الواقعة ومكانها ونحو ذلك مما لا يضر جهله كما يفعله بعض القضاة اليوم، بل ذلك من الفساد كما مرّ، وإنما استحسنوا ذلك في الزنا والسرقة كما قال (خ) وندب سؤالهم كالسرقة ما هي وكيف أخذت إلخ.. بل ذكر شراحه عند قوله في القسامة، وإذا اختلف شاهداه بطل أن شهود اللوث لا يلزمهم بيان الزمان والمكان ونحوهما، وإذا كان هذا فيما يوجب القتل فكيف به في غيره.
الرابع: ما مرّ من أن العبرة في المخالفة اختلاف المعنى لا اللفظ هو الذي صرح به من لا يحصى ممن تكلم على شهادة اللفيف فلا يرد ما لابن الهندي في وثائقه من أن شهادة الأبداد لا تعمل شيئاً إذا شهد كل واحد منهم بغير نص ما شهد به صاحبه وإن اتفقت شهادتهم في المعنى. اهـ.
لأن كلامه في العدول العارفين بمعاني الألفاظ وصيغها واللفيف لا يتأتى منهم ذلك في الغالب على أنه قد ورد عن مالك ما يدل على جوازها ففي أحكام ابن سهل عن الإمام مالك في شاهدين شهد أحدهما في منزل أنه مسكن هذا وشهد آخر أنها حيزه فقال: هي شهادة واحدة ولا تفرق، وقد يكون الكلام في الشهادة مختلفاً، والمعنى واحد فأراهما قد اجتمعا على الشهادة، قال سحنون: معنى حيزه أنه ملكه وحقه وفي التقريب على التهذيب: لو شهد رجل أن زيداً باع سلعته من عمرو وشهد آخر بإقرارهما بالبيع فشهادتهما كاملة لأنهما في المعنى قد اجتمعا على نقل الملك. اهـ.
والأبداد: بدالين مهملتين التفرق ومنه قولهم بدد الله شمل العدو.
ولا الكَثِيرُ فِيهِمُ العُدُولُ ** والْخُلْفُ في جَمِيعها مَنْقُولُ

(ولا الكثير) معطوف على ما مرّ (فيهم) خبر (العدول) مبتدأ والجملة حال، وأشار به إلى ما ذكره ابن سهل في مسألة أبي الخير الملقب لزندقته بأبي الشر شهد عليه بأنواع كثيرة من الزندقة الواضحة عدد كثير ثبتت عدالة نحو العشرين منهم وأكثر من ضعفهم استظهاراً، فأفتى قاضي الجماعة منذر بن سعيد وإسحاق بن إبراهم وأحمد بن مطرف بقتله دون إعذار وحكم به ولم يلتفت إلى من قال بالإعذار له، وظاهر إطلاق الناظم أن الإعذار منتف مع الكثرة المذكورة في الأموال وغيرها لأنه إذا انتفى في الدماء مع خطرها فكيف به في الأموال وهو كذلك؟ قال ابن سهل عقب نقله لفتوى من أفتى بقتل الزنديق المذكور ما نصه: والحق أن من تظاهرت الشهادة عليه في إلحاد أو غيره هذا التظاهر فالإعذار إليه معدوم الفائدة، وفهم من قوله الكثير أنهم إذا لم يكثروا يعذر فيهم وهو كذلك قال في التبصرة: وأما الآجال في حق الزنادقة فمذهب المحققين أن المشهود عليه إن استفاضت عليه الأمور الموجبة للقيام عليه فلا يعذر إليه ولا يضرب له أجل، وإن كان على اختلاف ذلك فإنه يؤجل شهراً لدفع البينة، فإن طلب أجلاً آخر ورجى ثبوت حجته أجل أجلاً آخر دون الأول أو مثله بالاجتهاد وإن لم يرج لم يوسع عليه (والخلف) مبتدأ (في جميعها) أي جميع ما مر أنه لا يعذر فيه يتعلق بقوله: (منقول) خبر المبتدأ، وقد نبهنا على الخلاف في كل مسألة بخصوصها عند الكلام عليها.
تنبيهان:
الأول: ما تقدم من عدم الإعذار في الموجه للتطليق وعدمه إنما هو من حيث الطعن فيه بالقوادح كما يفهم من التعليل بقوله منه بدلاً إلخ.
لا من حيث معارضته ببينة أخرى كما إذا شهد الموجه بأنها طلقت نفسها في وقت كذا من يوم كذا وطلب الزوج أن يأتي ببينة تشهد بأنها لم تتلفظ بالطلاق أصلاً في ذلك الوقت أو لم يحلفه في ذلك الوقت ونحو ذلك من الوجوه المعارضة الموجبة للتهاتر أو الصيرورة للترجيح، فهذا ينبغي أن يعذر له فيه ويؤجل لإثباته إذ لا أقل أن توجب المعارضة المذكورة الخلاف، ويحتاج الناظر في القضية حينئذ إلى مزيد تحرير وإتقان، وقد نقل (ح) أن البينتين إذا تعارضتا فنفت كل منهما ما أثبتته الأخرى في وقت مخصوص ومكان مخصوص يكون تهاتراً ويصار للترجيح فانظره، ولاسيما والموجه قد يكون واحداً وكذا يقال في اللفيف على ما به العمل من إعمال شهادته مطلقاً. وقلنا لا يعذر فيه بكل القوادح إذا أراد الخصم معارضته فيمكن كما نص عليه غير واحد.
الثاني: بقي على الناظم مما لا إعذار فيه شهادة القافلة بعضهم لبعض في حرابة إذا شهد عدلان منهم على من حاربهم بأخذ مال أو قتل، فإن مذهب مالك في السلابة والمغيرين وما أشبههم إذا شهد المسلوبون والمنتهبون قبول شهادتهم عليهم إذا كانوا من أهل القبول دون إعذار، وإن أدى إلى سفك دمائهم كما في ابن سهل عن أبي إبراهيم إسحاق المذكور، وكذا لا إعذار في شهادة أهل القافلة بعضهم لبعض عند حاكم البلد أو القرية التي حلوا أو مروا بها بما وقع بينهم من المعاملات في ذلك السفر وإن لم يعرف حاكم البلد عدالتهم كما أشار إليه المصنف فيما يأتي بقوله: ومن عليه وسم خير قد ظهر. إلخ.
لأنه في ضرورة السفر مدخول فيهم على عدم العدالة، وكذا لا إعذار في مزكي السر كما مرّ ولكن الذي عليه القضاة اليوم وجوب الإعذار فيه لما نبهنا عليه قبل في شاهدي المجلس، ويأتي قول الناظم: والفحص من تلقاه قاض قنعا. وأما المبرز في العدالة فالمعتمد وجوب الإعذار فيه بكل قادح كما أشار له (خ) بقوله: وفي المبرز بعداوة وقرابة وإن بدونه كغيرهما على المختار، وكذا من يخشى منه مذهب المدونة وجوب الإعذار فيه، وإنما ذكره (خ) مع من لا إعذار فيه جمعاً للنظائر قاله طفي أي: لأن الجمع للنظائر قد يرتكب فيه غير المشهور، وكذا لا إعذار في الشهادة بالضرر ولا في حكم الحكمين ولا في الشاهد على القاضي بالجرحة، لأن طلبه للإعذار فيه طلب لخطة القضاء وطلبها جرحة كما تقدم، وأما الوكالة فإنما ترك الإعذار فيها من تركه لأن القاضي لابد له من الإعذار عند إرادة الحكم بقوله: أبقيت لك حجة فاستغني بذلك عن الإعذار فيها ابتداء فلا يسقط فيها الإعذار جملة كما في غيرها مما مرّ، وكذا الإراثة كما في (ح) عن ابن بشير القاضي. والحاصل أن الطالب للإعذار إن كان هو الموكل فإن طلبه قبل قبض الوكيل ولم يتعلق للوكيل حق بالوكالة من بيع رهن بيده ليستوفي دينه ونحو ذلك فلا وجه للإعذار لأنه ممكن من عزله، وإن كان بعد القبض وتلف المقبوض أو تعلق للوكيل حق بها فلا إشكال في وجوب الإعذار له، وإن كان الطالب له هو الدافع فإن قلنا: إن الدافع لا ضمان عليه ولو ظهرت سخطة بشاهديها بعد قبض الوكيل وهروبه أو إفلاسه كما هو ظاهر كلامهم لأنه دفع بحكم، والمصيبة من الموكل فلا حق للدافع في الإعذار بلا إشكال، وإن قلنا بضمانه فكيف لا يعذر له إذا طلبه ابتداء وانتهاء. بل استظهر ابن رحال في شرحه وجوب الإعذار له مع عدم الضمان قائلاً لأنه قائم مقام الموكل في ذلك وأما إن قال: لا أدفع المال حتى يعذر إلى الموكل ففي ابن سلمون: إن قربت غيبة الموكل كالثلاثة فدون كتب إليه وإن بعدت الغيبة حكم عليه بالدفع، وحينئذ فمن نفى الإعذار فيها مراده إذا طلب الغريم الإعذار لنفسه مطلقاً أو لرب الحق مع بعد الغيبة كما ترى، وهذا كله إذا ثبتت الوكالة عند القاضي، وأما إن لم تثبت واعترف الغريم بصحتها فحكم عليه الحاكم بالأداء ثُمَّ تبين عدم صحتها وقد هرب الوكيل أو فلس فعلى الدافع الغرم والمصيبة منه لأنه غار لنفسه باعترافه كما نص عليه ابن فرحون في القضاء بالإمارات هذا تحرير المسألة فيما يظهر ولم أقف عليه محرراً هكذا والله أعلم.